الثلاثاء، يناير ٣٠، ٢٠٠٧

حماس و فتح على المحك

بقلم أحمد فؤاد
تطالب العديد من الجهات الأوروبية والأمريكية فضلا عن العديد من الأنظمة العربية حركة المقاومة الإسلامية "حماس" بأن تعترف بـ"إسرائيل" وكذلك فعل رئيس السلطة الفلسطينية وقد سبقه من قبل الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات وأعترف بإسرائيل كدولة، فهل اختلفت مجريات الأحداث بعد الاعتراف وانتظمت الأمور بين الطرف الفلسطيني والصهيوني، أم ظلت الموقف على حاله؟؟!!.
فكيف تريد هذه الجهات من حماس الإدلاء بهذا الاعتراف وهم لم يعترفوا بعد بهذه المنظمة بل ويتم الأشد والأنكى أنهم يقومون بإدراجها على قائمة المنظمات الإرهابية؟

دعونا نعترف بصورة أو بأخرى بأن حماس تمثل قوة لا يستهان بها في فلسطين وتمتلك سلسلة لا نهائية من أساليب المقاومة المتعددة والمتنوعة بدءا من تفخيخ العربات مرورا بالعمليات الاستشهادية نهاية بإطلاق الصواريخ على المدن والمستوطنات التي ينشئها الكيان الصهيوني في الوطن فلسطين، مما سبب له قلق دائم وشعور عام بأن هذه الحركة تكبده من الخسائر البشرية والمادية فضلا عن الخسائر المعنوية الكثير والكثير. فحاول صناع القرار في الكيان الصهويني أن يضعوها في حرج دولي- وخصوصا بعد وصول حماس عبر انتخابات نزيهة إلى سدة الحكم – وذلك عن طريق محاولة إجبارها بالاعتراف بالكيان كدولة لها سيادة على أراض لم تمتلكها إلا بالإغتصاب والقتل والتشريد ،وذلك على الرغم من حصول هذا الاعتراف من قبل العديد من النظم العربية والسلطة الفلسطينية ورئيسها نفسه.
لتوضيح الأمر أكثر فنذكر أن الرئيس الفلسطيني 'محمود عباس' اشترط وذلك خلال لقائه بالرئيس المصري 'حسني مبارك' بالقاهرة (في الأول من فبراير 2006) على حركة المقاومة الإسلامية 'حماس' الالتزام بالاعتراف بالكيان الصهيوني والتخلي عن المقاومة المسلحة واحترام - ما أسماه - الاتفاقات الموقعة مع 'إسرائيل' لتكليفها بتشكيل الحكومة الجديدة.
هناك خلفيات أخرى لا بد أن يسلط عليها الضوء في القضية، على سبيل المثال قول مدير المخابرات المصرية السيد 'عمر سليمان' الذي حضر اللقاء السابق ذكرة : 'إن 'عباس' أكد أنه سيشكل حكومة مع أطراف أخرى غير حماس، إذا لم تلتزم الأخيرة بالشروط التي طالبها بها'.وهو ما يشكل خرق تام لما يسمى بالديموقراطية الغربية المصطنعة والتي لا تهدأ حتى تأتي بمن يرغب فيه الغرب والكيان الصهيوني نفسه.
أصبحت الأمور على درجة عالية من الخطورة من بعد خطاب رئيس السلطة الفلسطينية "أبو مازن" في نهاية الشهر الماضي بالدعوة – في خطاب برام الله - "إلى إجراء انتخابات رئاسية وتشريعية مبكرة "في أسرع وقت ممكن" قائلاً في ختام كلمة طويلة "قررت الدعوة إلى انتخابات رئاسية وتشريعية مبكرة (...) لكي لا نبقى ندور في حلقة مفرغة وحياتنا تتراجع كل يوم" مما سبب في ما نستطيع إدراجة تحت الفضيحة والمهزلة، وهو نزول القوات العسكرية التابعة لحماس وفتح إلى الشارع الفلسطيني والاقتتال علنا داعيين بقية الشعب الفلسطيني إلى اليأس من الإصلاح سواء على يد حماس أو على يد الفتحاويين.
ولم يكتفي أبو مازن بما قاله في التصريح السابق ولكنه في الخطبة ذاتها واصل صب الزيت على النار وقال في نفس الخطاب" بحثت مع لجنة الانتخابات المركزية في أن تبدأ بأسرع وقت ممكن لبدء الاستعداد لهذه الانتخابات"، وأكد قائلا "ليعلم الجميع أنني لا اذهب لهذا الخيار من باب الترف".وزاد وقال أن لا مكان "لرأسين في البلد"، مؤكدا أنه يملك حق إقالة الحكومة التي وقع بنفسه مرسوم تشكيلها،
وعلى الجانب الأخر حيث صرح رئيس الوزراء الفلسطيني صاحب الحكومة المنتخبة بتصريح للكاتب المصري فهمي هويدي قائلا له - وذلك في جريدة الشرق القطرية- عندما سأله الكاتب وما المخرج من الأزمة –أزمة حكومة حماس و رئيس السلطة الفلسطينة-
"إن الإجابة متوقفة على ما إذا كنا نسعى لاقامة حكومة يريدها الشعب الفلسطيني أم حكومة تريدها الولايات المتحدة وإسرائيل؟ وإذا ما وقع الاختيار على الثانية، فلا مجال لمناقشة الموضوع. وليتحمل كل طرف مسؤولية اختياره والنتائج المترتبة عليه. اما إذا اردنا حكومة تمثل الشعب الفلسطيني، فإن الصيغة التي توصلنا إليها بخصوص برنامج الوحدة الوطنية، تمثل اسلم الخيارات وانجحها للخروج من الأزمة." انتهى كلام رئيس الوزراء ونعلق هنا قائلين بأن الاعتراف بالكيان الصهيوني قد علم الجميع -وبعد شهورا من الحصار والقتال داخل الأراضي الفلسطينة-أنه خط أحمر لحماس ولن تعترف به –حسب تصريحات جميع مسؤوليها- أبدا.
ومن الأشياء المثيرة التي تنم عن ضيق بالغ بالأفق وجهل تام بكل المواثيق الدولية -التي يتشدق بها الجميع -أن تتعالى الأصوات والمطالب منذ فترة بالاعتراف بـ"إسرائيل" الذي يجب أن تعلنه دولة معترف بها من جانب المجتمع الدولي ولكن حماس لم يُعترف بها ،فكيف يكون المطالبة منها بالاعتراف بـ"إسرائيل".
وعلى عكس مسؤولي فتح صرح العديد من مسؤولي حماس بأنهم على استعداد تام للتعاون واحترام جميع العهود والمواثيق المعلنة ولكنهم في نفس الوقت لن يقايضوا أو يسمحوا باللعب تجاه مصالح فلسطين العليا وهي نغمة لم يسمعها الكيان الصهيوني والمجتمع المتأمرك والمسمى خطأ بالمجتمع الدولي.
وننوه قائلين بأننا نجد في الوقت الأخير و طوال الثلاث عقود الأخيرة بأن القضية الفلسطينة تتجه إلى التآكل والتحلل بدءا من دخول الولايات المتحدة كراعي رسمي ووحيد لعملية السلام إلى تنازل العديد من رؤساء البيت الفلسطيني عن الكثير والكثير جدا من الثوابت الوطنية والتي كانت بمثابة خط أحمر، ووضع قضايا منتهية النقاش كاللأجئيين والقدس على مائدة المفاوضات.وهو مما أحدث حراكا جديدا وصعود أناس يعتقد الشارع الفلسطيني فيهم أنهم مازالوا قادرين على الأقل من وجهة نظرهم على الصمود أمام ألة القتل الصهيونية والجبروت الأمريكي.
ومن نافلة القول نتسائل ما الجريمة التي تستحق عليها حماس العقاب ويتم حصارها ومطاردة وزرائها في الدول.ما جريمتهم هل هي عدم الإعتراف بإسرائيل أم أن حماس وبرنامجها الانتخابي يرفض الإعتراف بمنظمة التحرير سؤال يطرح نفسه على مائدة الأحداث

السبت، يناير ٢٧، ٢٠٠٧

لماذا لا يشم عاااااادل الورد

طبعا بردو دكتور أحمد خالد توفيق
لماذا لا يشم عاااااادل الورد
امتحانات التيرم الأول للصف الثاني الابتدائي .. أشق طريقي وسط الزحام نحو اللجنة ممسكًا بكف (مريم) ابنتي الصغير إلى أن أصل للبوابة، فأدفع هذا وذاك من أولياء الأمور الذين يصرون على الوقوف أمام البوابة ليسدوها كأن هذا يجعل أطفالهم أذكى .. وفي النهاية أترك (مريم) لصف من العاملات مخيفات الشكل يناولنها لبعضهن يدًا بيد حتى تغيب في قدس الأقداس بالداخل، الأمر الذي يذكرني بمشهد الأب الذي ترك ابنته رهنًا لدى عصابة المخدرات في فيلم (الباطنية) إلى أن يجلب ثمن الحشيش الذي أخذه..

عدت في موعد الانصراف لآخذها بذات الصعوبة، خاصة مع أحجام الأمهات المرعبة كأنها حروب الديناصورات في العصر الطباشيري .. هنا لاحظت ظواهر عجيبة .. معظم الأمهات لم يعدن لبيوتهن قط وإنما ظللن طيلة فترة الامتحان على الباب يقرأن القرآن .. بعض الأمهات دامعات العيون، وثمة أم ترتجف وتتنفس بسرعة لتزيد قلوية دمها موشكة على الإصابة بحالة هستيرية.. بينما يخرج الأطفال مظفرين وقد بدا عليهم الغرور لأهميتهم المستجدة.. اكتشفت أن الأمهات يحملن جميعًا أسئلة الامتحان ليراجعنها مع الأطفال: جاوبت السؤال ده بإيه ؟.. قلت إيه هو لون القطة ؟.. الحتة دي مش في الكتاب..

ثم يتقلص وجه الأم من صعوبة الأسئلة وتردد بلا انقطاع: ولاد الكلب .. ربنا ينتقم منهم !.. ربنا ينتقم منهم !

سألتهن عن كيفية الحصول على هذه الأسئلة، فدللنني على صاحب مكتبة (شاطر) حصل على ورقة الامتحان وقام بتصويرها، وهو يبيع الورقة بعشرين قرشًا .. برغم إيماني بعبثية الموقف فقد وقفت في الطابور لأبتاع نسخة.. لن أكون الأب الوحيد الذي لم يشتر نسخة من الأسئلة ويكون علي أن أخبر أم العيال بهذا .. فقط رحت أتساءل عن الكيفية التي حصل بها هذا الأخ على أسئلة الامتحان، فلابد أنه يقتسم الأرباح مع أحد الإداريين بالداخل .. عشرون قرشًا في ألف ورقة خلال ساعة.. ليس مبلغًا سيئًا .. دعك من أنه حصل عليها بالتأكيد قبل مرور نصف الوقت كي يتمكن من تصوير كل هذه النسخ ..

عندما عدنا للبيت راجعت مريم الإجابات مع أمها، ثم تفرغت للاتصالات الهاتفية مع صاحباتها .. لماذا لم يشم عادل الورد ؟.. أنا قلت لأن عنده زكام .. مس هناء عدت علينا وقالت هي دي الإجابة الصح .. هكذا ظل الهاتف مشغولاً لمدة ساعتين ..

عندما تأملت في الموقف بعد ما هدأت الأمور وجدت شيئًا غير طبيعي وغير مبرر .. نحن نتكلم عن امتحان نصف العام للصف الثاني الابتدائي !... الصف الثاني الابتدائي !.. هل يستحق الأمر كل هذا الانفعال الزائد والتوتر ؟.. كل هؤلاء الصغار سينجحون بلا شك والمجموع لن يؤثر في مسار حياتهم، وإن لم أكن مخطئًا لن يحرمهم دخول كلية يحبونها..فماذا يصنعون في الثانوية العامة إذن ؟.. عندما لا يتناسب الانفعال مع المناسبة فإن ما تشعر به هو إحساس عارم بالسخف .. رجل يلطم خديه في الشارع لأنه لا يجد علبة الثقاب في جيبه ..

دموع وبكاء ومراجعات في الهاتف .. كل هذا من أجل (لماذا لم يشم عادل الورد ؟) و(ما لون القطة ؟).. هل هذا سلوك فسيولوجي ؟.. هل هذا سلوك عقلاني ؟.. هل هذا طبيعي ؟

في طفولتي – وأزعم أنني نشأت في أسرة مترابطة تهتم بأطفالها – لم يكن أحد يعلق أية أهمية على امتحانات من هذا النوع وبهذا الحجم .. في هذا الوقت كنت في مدرسة مجانية، ولم تكن (الأبله) قد أصيبت بذلك المرض المريع الذي حولها إلى (مس)، ولم تكن أعراض التحول إلى (مستر) قد أصابت الأستاذ .. كان المعلمون قومًا بارعين في مهنتهم ذوي ضمائر حية وثياب رثة – بالمناسبة - لأنهم لم يكونوا يحصدون الآلاف من الدروس الخصوصية... فقط كنت أخبر أهلي أن لدي امتحانًا غدًا فكانوا يعطونني الورق والأقلام اللازمة وينسون الأمر، ولم تبدأ هذه الهستيريا إلا مع دخولي الشهادة الابتدائية .. بدأت مع كثير من التحفظ ..

ما سبب هذا الذعر العام ؟

جاءني الجواب على الفور .. إنه الفراغ الروحي .. المصريون يفتقرون إلى مشروع قومي يضمهم ويوحد مشاعرهم لهذا يختلقون أي مشروع حتى لو كان (لماذا لم يشم عادل الورد ؟).. إنها الضغوط النفسية والاقتصادية والعاطفية والدينية تحاصر المصري الذي لا يجد طريقة لإخراجها إلا على باب اللجان .. فلابد من شماعة .. لابد من قناة لخروج كل هذا الضغط .. هكذا لا يجد المصري هدفًا إلا ذلك الطفل البائس ذا سبع السنوات الذي تقع على كتفيه الصغيرتين مسئولية كل شيء يحدث للأبوين .. وبما أن العصاب معد، فإن هذا التوتر ينتقل للطفل مع الوقت .. سوف يذهب إلى الامتحان شاعرًا بأنه مسئول عن آمال أمة وأحلام وطن .. وسوف يرتجف ويتوتر ويقضي الساعات على الهاتف يناقش لون القطة مع أصحابه .. اثنتا عشرة سنة من التوتر، ثم ينتهي وقوده في الثانوية العامة فلا يظفر إلا بخمسة وثمانين في المائة بعد كل هذه الصراخ .

الشخصية المصرية تعاني درجة عالية من التوتر العاطفي الذي يبحث عن مخرج .. مثلاً قد يأخذ هذا المخرج شكل توتر لا مبرر له كالذي رأيته على باب اللجنة .. هناك هواية صنع أبطال حتى لو كانوا من عينة شعبان عبد الرحيم لمجرد أنه قال (أنا باكره إسرائيل)...

د.(درية شرف الدين) شخصية عظيمة تظفر باحترام غالبية الناس، وقد تولت لفترة من الفترات رئاسة الرقابة على المصنفات ثم اضطرت للاستقالة بسبب ظروف خاصة .. هذا هو كل شيء .. ما حدث هو أن كثيرين حولوها لبطل قومي وأرسل أحدهم لجريدة يقول: هذه السيدة احترمت نفسها ورفضت أن تشارك في كل هذا الفساد فاستقالت !.. الغريب أنها لم تزعم شيئًا من هذا، وكل ما قالته هو أن ظروفها لا تسمح .. لكنه ذلك الجوع إلى بطل يحمل عنا العبء النفسي ويدفع ثمن أرواحنا..

الغضبة العارمة في قضية الرسوم الكاريكاتورية الدانمركية عظيمة ومفهومة، ولكن أين غضباتكم على نهب مصر وتزوير الانتخابات وتعرية الصحفيات وعلى احتلال العراق الذي يهين المصاحف في دورات المياه ؟. يحتاج الأمر إلى عالم اجتماع يفسر لنا هذا التناقض السلوكي عندما يهان الدين بيد الولايات المتحدة وعندما يهان بيد الدانمرك.

اتصلت بصديقي لأخبره بهذه الخواطر فوجدت الخط مشغولاً.. طلبته عدة مرات على مدى ساعة، وفي النهاية عرفت أن زوجته كانت تجري مكالمة طويلة مع أم (ندى) زميلة ابنته الطالبة في الصف الأول الابتدائي .. السبب هو أنهم - أولئك الأوغاد في المدرسة – قد أنقصوا درجتين من نتيجة الفتاة لأنها قالت إن لون القطة أسود بينما كتاب الوزارة يؤكد أنها بيضاء !.. الأم مصرة على تقديم شكوى وإعادة تصحيح الأوراق، بينما زوجة صديقي تقنعها أن كتاب الوزارة هو الحجة الأخيرة .. ما دام قال بيضاء يبقى بيضاء ... ثم أن هؤلاء لن ينصفوك أبدًا لأن التعليمات تقضي بأن يقللوا عدد من يدخلون الجامعات !

هكذا أنهت أم (ندى) المكالمة، ولن اندهش لو عرفت أنها ابتلعت أقراص الأسبيرين لتقتل نفسها بعد ما فقدت كل أمل في الغد ...

مصر تتحول يومًا بعد يوم إلى مستشفى مجانين كبير .. هل يدرك أحد هذه الحقيقة قبل فوات الأوان ؟

شرييييييييط راااااااائع لا يفوتك أبدا يا بني أدم عارف لو مسمعتوش فعلا هتخسر كتييييييييييييييييييير

الخميس، يناير ٢٥، ٢٠٠٧

شعر الرقباااااااااااااااااااااااااااااااااااااء

أحمد مطر
شعر الرقباء
فكرت بأن أكتب شعراً
لا يهدر وقت الرقباء
لا يتعب قلب الخلفاء
لا تخشى من أن تنشره
كل وكالات الأنباء
ويكون بلا أدنى خوف
في حوزة كل القراء
هيأت لذلك أقلامي
ووضعت الأوراق أمامي
وحشدت جميع الآراء
ثم.. بكل رباطة جأش
أودعت الصفحة إمضائي
وتركت الصفحة بيضاء!
راجعت النص بإمعان
فبدت لي عدة أخطاء
قمت بحك بياض الصفحة..
واستغنيت عن الإمضاء!

الاثنين، يناير ١٥، ٢٠٠٧

الأمير فوق من ذكرت

عن د/أحمد خالد توفيق
-----------------------------

لست أذكر المناسبة بالضبط، لأنني كنت مراهقًا في المدرسة الثانوية أجلس أمام جهاز التلفزيون، أتابع ما أذكر أنه حفل تكريم أو عيد للعلم .. شيء من هذا القبيل .. على المنصة يجلس الرئيس الراحل (أنور السادات)، واللحظة هي تكريم أحد أستاذته السابقين في المدرسة .. كان الرئيس الراحل يحب هذه المواقف لما فيها من مسحة درامية .. (هل تذكر الحطاب الفقير الذي آويته في دارك وأطعمته في تلك الليلة ؟.. لقد كان هو الخليفة متنكرًا ! .. وقد خلع عليك قصرًا وزكيبة من الذهب).. وقد سبق هذا تكريم مماثل لمن يدعى (سائق دمرو) الذي ساعد السادات في ظروف مماثلة ..
المهم أن الأستاذ المسن الذي تصلبت شرايين مخه، والذي عاش عصور النفاق منذ أيام مولانا ولي النعم، اعتلى المنبر فقال بالحرف الواحد: "الله يقول: إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب .. أما نحن فنقول: إن في خلق السادات والأرض .. كذا .."
أقسم بالله أن هذا قيل حرفيًا، وسوف أُسأل عنه يوم القيامة .. لقد أصابني الهلع من هذه الدرجة العبقرية المفزعة التي يمكن أن يبلغها النفاق .. والأغرب هو أن أحدًا لم يعترض، والرئيس المؤمن نفسه لم يهب لتصحيح كلمات الرجل ..
كانت نهاية عصر السادات كما أذكرها مهرجانًا دائمًا من المزايدة على فن النفاق، وإنني لأذكر جلسة مجلس الشعب الصاخبة لتنصيب السادات سادس الخلفاء الراشدين.. بما أنني طنطاوي فقد شعرت بجو المولد الأحمدي العام حيث الكل يصرخ .. الكل مبتل بالعرق .. الكل يزايد .. ثم قتل السادات في ذات العام تقريبًا فلم يفده أحد بالروح أو الدم، وبادر كاتب صحفي كبير إلى انتقاد طريقة حكمه بعد دفنه بيومين ..
تذكرت هذا كله عندما قرأت مذهولاً قصة الطالبة التي عبرت عن نفسها في موضوع التعبير فقامت الدنيا ولم تقعد .. كنت قد كتبت من قبل عن مفهوم الإذاعة المدرسية والمدرس الذي يرغب في أن يرضى عنه ناظر المدرسة، وناظر المدرسة الذي يشتهي أن يرضى عنه وكيل الوزارة، ووكيل الوزارة الذي يتمنى أن يرضى عنه الوزير .. كتبت عن التصور الحكومي للتلميذ المثالي الذي يرقص طربًا لاتفاقية الكويز أو توشكى، وقد امتلأ رأسه بكلمات من عينة (النبراس) و(العلياء) و(السؤدد) يرصها في أي موضوع تعبير .. التلميذ الذي يؤمن أن الحكومة دائمًا على حق، وأن أفضل رئيس جمهورية هو الرئيس الحالي في اللحظة الحالية ..
لم تكن (آلاء) كذلك .. وقد كتبت ما خطر لها في ورقة التعبير لأنها افترضت أنه ما دام اسم المادة تعبيرًا، فعليها أن تعبر عن نفسها .. قال البعض إنها كتبت تشتم (بوش) وقال البعض إنها طالبت الرئيس بأن يتقي الله ..المهم أنها اصطدمت بعقلية (النبراس) و(العين ما تعلاش على الحاجب) هذه فكانت النتيجة كما يعرفها الجميع .. وكما يقول الأستاذ محمد حماد في جريدة (العربي ) الناصري: " والذى رأى وقرأ وسمع دفاع المسئولين فى وزارة التعليم والتربية سابقا عن الإجراء الذى اتخذوه بحق الطالبة يتصور أنها خانت الوطن وخرجت عن الملة، إذ قالت للرئيس اتق الله واحكم بالإسلام، والأغرب أنهم لحسوا كلامهم صبيحة أعلن الرئيس عفوه الكريم عن ابنته الطالبة، وتغير الحال فاستقبلها الوزير بنفسه وهنأها على نجاحها الذى كانوا يريدون لها أن تخسره وتخسر معه عاما من عمرها! .. انقلب حال الوزارة وانقلب حال الصحف وخرست ألسنة السوء التى طالبت بمعاقبة الطالبة التى خرجت عن الأخلاق وأساءت الأدب، وتبدل الحال وأصبح ما قالته يدخل فى باب حرية الرأى التى يحترمها الرئيس ويحرضها وزميلاتها وزملاءها على ممارستها! "
هناك إشاعة قوية يتناقلها الناس حول أن أمن الدولة اقتنع بأن ما تقوله الفتاة ليس كلامها، بل هو كلام جهة أكبر وأخطر !.. هكذا تم اعتقال أبيها للتحقيق معه باعتباره بداية الخيط التي ستقود إلى (أيمن الظواهري) نفسه !.. سمعت هذه الإشاعة فلم أصدقها .. منطق النفاق يقول إنه لن يجرؤ أحد على التحرش بهذه الطالبة ثانية .. لقد اهتم الرئيس بها شخصيًا وصار الاقتراب منها محفوفًا بالخطر، وأعتقد أن هؤلاء المسئولين الملكيين أكثر من الملك سوف يدفعون ثمن نفاقهم غاليًا .. نفس ما حدث لمذيع شهير حاول أن يتملق الرئيس بطريقة ضايقته، وكانت النتيجة أن تم استبعاده تمامًا من أية حوارات أخرى مع الرئيس.. لقد انقلب السحر على الساحر ..
إن ثقافة النفاق عتيقة جدًا في بلادنا .. ومهما دارت الأيام فإن مفهوم الشاعر الذي يدخل على الخليفة فيمدحه، ويخرج حاملاً زكيبة مال ، هو مفهوم متأصل فينا ويصعب الخلاص منه ..
لا ازعم أنني درست الأدب العالمي، لكن أزعم أن أي دارس للأدب سيتعب كثيرًا حتى يجد بيتًا من الشعر في أية لغة يماثل ما قاله ابن هاني الأندلسي في مدح الخليفة الفاطمي المعز لدين الله :

ماشئت لا ماشاءت الاقدار....فاحكم فأنت الواحد القهار
وكأنما أنت النبي محمد .....وكأنما أنصارك الانصار !!

بصرف النظر عما في هذا الكلام – البيت الأول - من شرك صريح، فإن أية أمة يُقال فيها كلام كهذا هي أمة مقضي عليها بالفناء، فلا غرابة أن يقال إن هذا الشعر كان نذيرًا بفناء دولة العرب في الأندلس.
المزايدة تتكرر في قصص التراث بلا انقطاع .. ها هو ذا (أبو تمام) ينشد قصيدته السينية أمام الأمير (أحمد بن المعتصم) .. فيقول الشاعر في نفاق صادق حار واصفًا الأمير:

إقدام عمرو في سماحة حاتم .....في حلم أحنف في ذكاء اياس

هنا يتدخل رجل بلغت به (سلطنة) النفاق درجة أعلى .. هذا الرجل هو أبو يوسف يعقوب الكندي قائلاً:
ـ"الأمير فوق من ذكرت !"
يعني كل هذا النفاق غير كاف .. الأمير أعظم من هذا .. لابد من المزايدة فقد بدأ (مولد) النفاق .. وعلى الفور يستغل (أبو تمام) موهبته ليرتجل شعرًا لم يكن مكتوبًا:

لا تنكروا ضربي له من دونه ... مثلا شرودا في الندى والباس
فاللّه قد ضرب الاقل لنوره ......مثلا من المشكاة والنبراس

هذه القصة لا ترد في المراجع دليلاً على عبقرية النفاق أو قلة الأدب (فهناك تشبيه ضمني للأمير بالله تعالى) ، بل على براعة الشاعر وحسن تصرفه .. ولسبب ما أوشك أن أرى ذلك المسئول التربوي الذي ألغى امتحان آلاء يصرخ فيها : الأمير فوق من ذكرت !...
الأمثلة كثيرة جدًا ولا شك في أنني نسيت ذكر أهمها .. لكني أتذكر كذلك مقولة الأستاذ (أحمد بهجت) الرائعة : "للنفاق في بلادنا هيبة".. كان يحكي عن زيارته لأحد أصدقائه – ممن لم يعرف عنهم أي تدين - الذي صار شيخ طريقة .. قابله جالسًا في سرادق محاطًا بالمريدين، فتقدم نحوه ليصافحه وهو يوشك على الانفجار ضحكًا .. ثم أخذته هيبة النفاق فانحنى يلثم يده !
أحيانًا يبلغ النفاق درجات من التعقيد يصعب أن تتخيلها .. مثل ذلك المطرب الذي ينشد في أحد أعياد أكتوبر: "لا حيغنيني ولا يرقيني .. ولا فيه مصلحة بينه وبيني .. باقولها وأجري على الله .. علشان كده احنا اخترناه !" .. يريد أن يقنعني أن مدحه لرئيس الجمهورية هو كلمة حق أمام سلطان جائر ! .. وأجره بعد ذلك على الله ..
ذات مرة – قبل أن يدخل معترك السياسة بهذا الوضوح – زار السيد (جمال مبارك) مدرسة خاصة للفتيات في القاهرة، فنشرت التلميذات في إحدى المجلات رسالة مناشدة إلى الرئيس تقول: "نحن في بلد ديمقراطي ومن حقنا التعبير عما يجول بخاطرنا، وانت علمتنا الحرية وعدم الخوف .. لذا نطالب الرئيس مبارك بأن يكلف السيد (جمال) بوظيفة سياسية مهمة !".. هذا نوع من النفاق عجيب، على غرار: "أتركني أقول شهادتي التي سأسأل عنها أمام الله .. أنت أعظم وأروع من رأيت !".. تخيل لو أنهن نشرن رسالة يطالبن فيها الرئيس بعدم إسناد أي منصب رسمي لابنه !
المنافقون .. المنتفعون .. مشكلة هذا البلد وكل بلد عربي ..
هناك دومًا من يريدون أن يبقى الحال على ما هو عليه، وهم قادرون في أية لحظة على تنظيم المظاهرات المضادة، ونشر العرائض المكتوبة بالدم والمبايعة، وأن يملئوا البلد باللافتات المؤيدة لأي شخص وأي قرار في أية لحظة .. هؤلاء هم الذين يفرغون أي إصلاح حقيقي من محتواه ..
سواء كانت نية الرئيس (علي عبد الله صالح) صادقة في التخلي عن الحكم أم خلاف ذلك، فقد تكفل هؤلاء في اليمن بإحباطها وعادت الأمور كما كانت، وهم مستعدون في أي بلد عربي كي يهتفوا (الأمير فوق من ذكرت) في أية لحظة .. ولسوف يظهر لهم من يزيد بيتين من الشعر لإرضاء الحاكم..
الأمير فوق من ذكرت .. فلا مكان لطالبة ساذجة تعتقد أن موضوع التعبير يعطيها الحق في أن تعبر عن أفكارها .. والويل كل الويل لمن يبتعد عن ثقافة (السؤدد) و(النبراس) هذه .

الجمعة، يناير ١٢، ٢٠٠٧

بين التاريخ والواقع: نعم.. قد نحزن لموت صدام!!

بقلم الدكتور راغب السرجانى
فوجئت الأمة العربية والإسلامية في صباح أول أيام عيد الأضحى المبارك لعام 1427 من هجرة النبيّ محمد صلى الله
عليه وسلم بنبأ جلل..
لقد تم تنفيذ حكم الإعدام شنقًا لزعيم عربي مسلم، لقد أُعدم صدام حسين الرئيس السابق للجمهورية العراقية المحتلة منذ شهر أبريل عام 2003م، عندما سقطت العاصمة العراقية بغداد في يد الجيش الأمريكي..
وبدأ المسلمون عيدهم بمتابعة مشاهد الإعدام التي تم بثها على مختلف المحطات الفضائية، والتي ظهر فيها صدام متماسكًا وهو يصعد إلى منصة الإعدام، حيث جهر بالشهادتين قبيل تنفيذ الحكم..
ومما لا شك فيه أن صدام حسين كان حاكمًا مستبدًا شديد القسوة على معارضيه، حيث سجن منهم الكثير ونكل بالكثير، وعلى سبيل المثال نذكر لصدام هجومه على قرية حلبجة العراقية بهدف القضاء التام على أي معارضة كردية لحكمه، مما تسبب في استشهاد 5000 آلاف مواطن كردي وإصابة 10000 آلاف آخرين..
كما لا نستطيع أن ننسى أن صدام تسبب في جرِّ المنطقة العربية إلى حرب الخليج في عام 1991م، وذلك بعد أن تم استدراجه لغزو دولة عربية مسلمة وهي الكويت، مما تسبب في شقّ الصف العربي المسلم، وجرّ الشعب العراقي إلى سلسلة من المآسي والمعاناة التي ما زال يتجرعها إلى الآن..
ولكن السؤال..
هل كان صدام حسين هو الطاغية الوحيد في العالم الإسلامي؟
وبالتأكيد الإجابة هي لا، فما أكثر الطغاة في عالمنا العربي والإسلامي..
إن الشعوب العربية والإسلامية من أكثر شعوب العالم التي عانت على أيدي حكامها المتجبرين، فلا يوجد شعب مسلم إلا وذاق أهلُه مرارة السجن والاعتقال والتعذيب ومصادرة الأموال، بل ويصل الأمر إلى القتل والإعدام لمجرد الاختلاف في الرأي مع النظم الحاكمة، التي أعطت لآرائها وسياساتها منزلة إلهية مقدسة لا يجوز معارضتها..
ومما لا شك فيه أن ذهاب الطغاة يورث سعادة في قلوب الناس، ومع ذلك نجد في النفس الكثير من الأسى والحزن بموت صدام على هذا النحو ولعل من أسباب هذا الحزن غياب العدالة..
فلماذا العراق بالذات؟
ولماذا صدام تحديدًا الذي تم اختياره لإنقاذ البشرية من ظلمه؟
هنا نجد الفرق واضحًا بين عدالة الله المطلقة المجردة من أي هوى، وعدالة البشر التي تخضع بالكلية لحسابات المصالح وتتحكم فيها أهواء البشر..
أيضًا مما يدعوا للأسى هو إعدام حاكم عربي مسلم في ظل احتلال بلاده وعلى يد أعوان هذا المحتل الغاصب، كما أن توقيت تنفيذ حكم الإعدام يحمل الكثير من مظاهر الإهانة والاستخفاف بمشاعر أبناء الأمة الإسلامية بكاملها..
بالإضافة إلى أن تعمّد إعدامه كالأضحية في يوم النحر الأكبر يحمل رسالة واضحة إلى أبناء العالم الإسلامي، بأنه من يرفع رأسه سنقطعها، ومن يقاوم سيذبح، والويل لمن يخرج عن الطريق الذي رسمه الأمريكان، حيث لن يجد له وليًا ولا مرشدًا..
أليس في ذلك ما يورث الحزن؟
ولعله مما يدعوا للأمل معرفة أن هذا الحادث بل وأسوأ منه قد مرّ على الأمة الإسلامية في تاريخها، ولكن بفضل الله استطاعت النهوض مرة أخرى والقيام من كبوتها..
ولعل أكثر المواقف شبهًا بحادثة إعدام صدام هو ما حدث مع المستعصم بالله خليفة المسلمين، والعجيب أنه حدث في العراق أيضًا، وبطريقة مهينة كالتي مات بها صدام حسين، وإن كانت إهانة الأمة الإسلامية بموت صدام هي في توقيت إعدامه، فإن إهانتها بموت المستعصم كانت في الوسيلة التي اختارها المحتل لقتله..
لقد تم وضع المستعصم في جوال وتم ركله بالأقدام حتى الموت!!
ورغم ما روي عن المستعصم من أنه كان قارئًا للقرآن ومحبًا لمجالس العلم؛ إلا أنه كان قائدًا فاشلاً، لم لم يستطع تربية شعبه على الجهاد، ولم يجعل دولته قوية أو يحصن أسوارها، ولم يقدّر بدقة قوة أعدائه، فلم يكن الحاكم المسلم المخلص لشعبه المنفّذ لتعاليم دينه، فكان جزاؤه إهانته وسقوط دولته، ومشاهدة وقائع قتل أبنائه وأحبابه وأصحابه ومَلَئِه بعينيه، ثم في النهاية بطريقة موته..
ومع كون المستعصم حاكمًا فاشلاً، وشخصية ليست على قدر المسئولية، إلا أن العالم الإسلامي كله قد حزن عليه ليس حبًا فيه وفي نظام حكمه ولكن لأنه كان رمزًا للخلافة العباسية العريقة، وأيضًا لأنه قُتل على يد مجموعة من الهمج الذين لا يريدون للأرض خيرًا ولا صلاحًا، كما أنه قتل في عقر دار المسلمين..
ما أشد التشابه بين الحدثين!!
وما أشد الحزن الذي في قلوبنا على الزعيمين، مع أننا وبوضوح نرفض سياستهما جملة وتفصيلاً..
كما أننا لن ننخدع بأن محاكمة صدام كانت عادلة، وبأن القضاة والمنفذين هم عراقيون وليسوا من الغزاة كالتتار وغيرهم..
فنحن جميعًا نعلم وهم أنفسهم يعلمون أنهم دمىً تحركها أصابع الأمريكان في السرّ أحيانًا، وفي العلن أغلب الأحيان..
لقد استفزّ موت المستعصم وخراب بغداد واحتلال العراق المسلمين آنذاك فخرج من بينهم قطز وأصحابه، فأزاحوا الغمة عن كاهل الأمة، وأعادوا المجد والكرامة والهيبة للمسلمين..
كان هذا في القديم..
فمن يا تراه قطز هذا الزمان..
ومن أين سيخرج؟؟؟
ويسألونك متى هو؟ قل عسى أن يكون قريبـًا.

الخميس، يناير ١١، ٢٠٠٧

رســـائــل الإعــــــدام المهـــــيـن

بقلم‏:‏ فهمـي هـويـــدي
لا أفقنا من الصدمة‏,‏ ولا فارقنا الشعور بالمهانة والخزي‏.‏ ولا نجحت الأيام العشرة التي مرت في إزالة آثار البصقة التي ألقيت في وجوهنا صبيحة يوم العيد‏.‏ لكن ذلك ينبغي ألا يمنعنا من فض حزمة الرسائل التي تلقيناها من العواصم المعنية منذ وقعت الواقعة‏.
‏‏(1)‏ثمة حقيقة يتعين الاعتراف بها قبل فض تلك الرسائل‏,‏ وهي أن الذين أهانوا الرئيس السابق صدام حسين وارادوا إذلاله والانتقام منه‏,‏ قدموا له من حيث لايحتسبون خدمة جليلة لم يحلم بها وهو في محبسه‏,‏ إذ حولوه من رمز للجبروت والطغيان إلي رمز للكبرياء والشجاعة‏,‏ حيث رآه الناس في مشهد إعدامه صامدا وثابت الجنان‏,‏ بينما ظهر جلادوه أقزاما تخفوا وراء الأقنعة وجرذانا مذعورة تحاول أن تتخفي من أعين التاريخ‏.‏إن الذين تخيروا ساعة النحر يوم عيد الأضحي موعدا لشنقه‏,‏ وحرصوا علي تصوير ماجري لحظة بلحظة‏,‏ كأنما أعمي الله بصيرتهم فأوقعهم في شر أعمالهم‏.‏ إذا بدا واضحا أن الغباء وشهوة الانتقام والحقد‏,‏ هذه العوامل حين اجتمعت فيهم‏,‏ فإنها غيبت عنهم إدراك جلال مناسبة العيد التي تمس شغاف قلوب مئات الملايين من المسلمين‏,‏ وعن المعاني السامية والنبيلة التي يستحضرها المسلمون في تلك اللحظات‏.‏ كما أعمتهم عن تمثل أبسط القيم التي تقرر للناس حق الكرامة في لحظات الموت‏,‏ ناهيك عن أنهم تخلوا في تلك اللحظات عن مقتضيات المروءة والشهامة التي يجلها العرب والشرفاء في كل مكان‏.‏حين عموا عن ذلك كله وصموا‏,‏ فإنهم لم يهينوا صدام حسين وحده‏,‏ وإنما اهانوا عيد المسلمين‏,‏ وملايين المسلمين‏,‏ ومشاعر العرب أجمعين‏.‏ ولأن غباءهم بدا مفرطا وبلا حدود‏,‏ فإنهم حولوا مراسم الإعدام إلي طقس شيعي‏,‏ فصوبوا سهما مسموما إلي العلاقة التي أصابها الوهن في العراق بين الشيعة والسنة‏.‏ الأمر الذي حول مشهد الإعدام الي قنبلة ملوثة شديدة الانفجار‏,‏ انتشرت شظاياها في أنحاء العالم العربي والاسلامي‏.‏بشاعة تصرفهم جعلت كثيرين ينسون سجل صدام حسين وفظائعه‏,‏ ويتذكرون فقط لحظات الثبات التي وقفها وهو مقبل علي حبل المشنقة‏.‏ ناهيك عن أن منهم من أصبح يترحم علي ايامه حين يقارنها بالخراب الذي عم البلاد وأهلك العباد بعد التحرير‏.‏ كما أن التشفي فيه ومحاولة اهانته دفعا الأغلبية الساحقة الي الانحياز للضحية‏,‏ ومن ثم الإعجاب بشجاعته والتعاطف معه‏.‏ وهناك آخرون انضموا الي صفوف الغاضبين والناقمين‏,‏ ليس احتجاجا علي ما أصاب الرجل‏,‏ وإنما غضبا لحرمة عيدهم الذي تم ابتذاله وانتهكت كرامته‏,‏ ولحرمة انتمائهم العقيدي الذي تعرض للتجريح والإهانة‏,‏ وغيرة علي قيم المروءة والنخوة التي أهدرت في المشهد‏.
‏‏(2)‏في العدد الأخير من مجلة نيوزويك وصف رئيس تحريرها فريد زكريا مشهد الإعدام بأنه انتقام المنتصرين ووصف آداء فريق الرئيس بوش في العراق بأنه كان مزيجا غريبا من الجهل والسذاجة‏.‏ لكني لا أري في هذه الأوصاف تشخيصا دقيقا ولاتفسيرا كافيا لاختيار اعدام الرئيس العراقي السابق بهذه الطريقة في ذلك التوقيت الحساس‏.‏ أعني في ساعة النحر صبيحة اليوم الأول من عيد الأضحي‏.‏ علما بأنه تم تجاوز اللغط حول صلة الأمريكيين بتحديد موعد الاعدام‏,‏ بعدما ثبت أنهم العنصر الأساسي في حسم جميع تفاصيل العملية‏.‏ وأن كل مافعلته الحكومة العراقية أنها قامت بالتنفيذ واعتبرته فرصة للانتقام والتشفي‏.‏صحيح أن الانتقام وارد وأن الجهل والسذاجة باتا من السمات الأصيلة لقرارات الإدارة الأمريكية في العراق‏,‏ لكن إجراء الإعدام وتوقيته صبيحة يوم العيد سلط الضوء علي ماهو أبعد وأعمق من مضمون تلك المصطلحات‏.‏ الأمر الذي يضعنا بازاء حالة تجلي فيها الأزدراء والاحتقار في اسطع صوره‏.‏ ذلك أن إلقاء تلك البصقة الجارحة في وجوه مليار و‏300‏ مليون مسلم دفعة واحدة في يوم عيدهم لايمكن الاكتفاء في تفسيره بحسبانه نابعا من مجرد الجهل والسذاجة‏.‏ فخطوة بهذه الجسامة لايمكن لراشد أن يغفل عن تداعياتها في الظروف العادية‏.‏ ولايمكن لصاحب القرار أن يقدم عليها في مناسبة عيد ديني هو الأكبر عند المسلمين‏,‏ إلا إذا كان قد تعامل مع الطرف الآخر فيها‏(‏ العرب والمسلمون‏)‏ بحسبانهم كائنات لا قيمة لها ولا كرامة‏.‏ وليس لديهم مايستحق الاعتبار‏,‏ لا العقيدة ولا التقاليد أو الأعراف‏,‏ وأن ثقافتهم مما يمكن دوسه واستباحته دون قلق من ردود الفعل‏.‏لو أن الرئيس بوش وفريقه خطر ببالهم للحظة أنهم يتعاملون مع أمة فيها نبض حياة وتخيلوا أن ثقافتها تستحق الاحترام‏,‏ وأن شعوبها لها شيء من الكرامة وتعرف معني الغضب لترددوا ألف مرة قبل أن يقدموا علي فعلتهم‏,‏ ولما أوي الرئيس بوش إلي فراشه متهللا في تلك الليلة‏,‏ حاظرا علي الجميع ايقاظه تحت أي ظرف‏..(‏ كما نشرت الصحف‏)‏ ـ ولم لايستريح ضميره ويهنأ باله‏,‏ وهو يعلم أن غاية ما سوف يحدث في الصباح التالي أن تسقط جثة فرد فوق سطح جثة أمة لم يرها إلا فاقدة الحراك ومعدومة الاعتبار؟‏!.‏تلك هي الرسالة الأهم التي يتعين استلامها مما جري‏.‏ ومن يريد منها استزادة أو توثيقا لخلفيات موقف الازدراء الأمريكي التقليدي بالآخر‏,‏ فعليه أن يقرأ كتاب الباحث منير العكش‏:‏ حق التضحية بالآخر ـ أمريكا والإبادات الجماعية‏.‏ وهو من سجل بتفصيل مثير قصة الوحشية الأمريكية في ابادة الهنود الحمر‏,‏ ـ أول آخر صادفهم ـ الذين كان الأمريكيون يمعنون في إذلالهم وتحقيرهم ويصفونهم بأنهم عرب‏!
‏‏(3)‏اذا كان الاحتقار هو مفتاح قراءة الموقف الأمريكي‏,‏ فإن الانتقام هو مفتاح موقف السلطة العراقية‏.‏ ولا يخلو من مبالغة وصفها بأنها سلطة‏,‏ لأنها لا تملك من الأمر شيئا في حين أن السلطة الفعلية هي للأمريكيين علي مستوي‏,‏ وللإيرانيين علي مستوي آخر‏,‏ وكل الذين يتحركون علي مسرح السلطة خيوطهم مشدودة إلي هذا الطرف أو ذاك‏.‏ كما أن كل الذي يشاع عن اقامة الاحتلال لدولة ديمقراطية يسودها القانون ومجتمع مدني تتعدد فيه المؤسسات‏,‏ هو هراء ومحض أكاذيب‏.‏ فنحن بازاء أنقاض واشلاء دولة تمكنت منها جماعات لها دوافعها الطائفية‏,‏ التي تريد اعادة صياغة العراق وكتابة تاريخه من هذه الزاوية‏.‏ وهم في ذلك لم يختلفوا كثيرا عن صدام حسين في تبنيهم للعنف‏,‏ بل ربما كانوا أسوأ منه‏.‏ أقله لأن الرجل كان جلادا لحساب الوطن‏,‏ بينما هم جلادون لحساب بالطائفة‏.‏ وهذه هي الرسالة الثانية التي تلقيناها في ثنايا مشهد الاعدام المهين‏.‏ دعك من اهدار القانون في تشكيل المحكمة بواسطة حكومة الاحتلال‏,‏ وفي اجراءات التحقيق والمرافعة‏,‏ وفي تنفيذ الاعدام في يوم العيد الكبير‏(‏ الممنوع بحسب القانون وطبقا للاعراف السائدة في العالم المتحضر‏),‏ وفي شنق الرجل فيحين أنه كان ينبغي أن يعدم رميا بالرصاص باعتباره أسير حرب‏,‏ إلي غير ذلك من الممارسات التي ندد بها المنصفون والراشدون‏,‏ وفضحت أكذوبة دولة القانون‏.‏ إذا غضضت الطرف عن ذلك كله وسألت‏:‏ لماذا اعدم الرجل بتهمة قتل‏138‏ مواطنا عراقيا‏(‏ هم حصيلة يوم واحد في المقتلة الدائرة حاليا‏),‏ ولم يحاسب علي قتل خمسة آلاف كردي عراقي بالغاز السام في حلبجة‏,‏ ولا علي غزوه للكويت‏,‏ أو حربه ضد ايران‏,‏ أو الجرائم الأخري التي ارتكبت بحق معارضيه السياسيين ؟ستلوح فكرة الانتقام في الأفق حين تتحري الاجابة‏.‏ اذ ستلاحظ أن الذين حاولوا اغتيال الرئيس السابق قبل ربع قرن‏,‏ اثناء حربه ضد إيران‏,‏ هم من شيعة قرية الدجيل‏,‏ الذين بطش بهم الرجل اثر فشل المحاولة‏.‏ ولأن الجماعات الشيعية هي صاحبة السهم المعلي في الوضع الراهن‏,‏ فإن إشباع رغبتها في الانتقام اقتضي ان يعدم صدام حسين بسبب ما اقترفه بحقهم‏.‏واذا كان الأبالسة الذين اخرجوا المشهد قد وفروا للمتعصبين فرصتهم في التشفي‏,‏ إلا أنهم حققوا من وراء الاعدام غرضا آخر كسبوا به نقطة أراحت خواطرهم‏.‏ فإلي جانب مجاملتهم للشبعة‏,‏ فإنهم تخلصوا من الرجل وأسكتوه إلي الأبد‏.‏ حتي لا يفضي بما لديه من اسرار ويكشف مخزون فضائح الممارسات السياسية التي تمت في عهده‏,‏ والتي كانت الدول الغربية وبعض العربية ضالعة فيها‏.‏ ذلك أن الغاز السام الذي قتل به الاكراد في حملة الانفال لم يكن منتجا عراقيا ولكنه قدم اليه من الدول الغربية الصديقة‏.‏ وحربه ضد ايران كانت مؤيدة بالدعم الامريكي والعربي‏,‏ حتي غزوه للكويت لم يسلم من اللغط الذي جري الزج في ثناياه بدور للدبلوماسية الأمريكية‏.‏ وخلال سنوات حكمه التي استمرت ربع قرن فانه لم يكن يتصرف لوحده دائما‏.‏ وانما تداخلت مع وتقاطعت اطراف أخري خارجية بصورة أو أخري‏.‏ وذلك كله يمكن أن يفجر ويفضح اذا ما حوكم الرجل عن تلك الجرائم‏.‏ ولأن اسكاته غدا مطلبا ملحا لإغلاق الملفات الأخري‏,‏ فإن الاعدام كان هو الحل‏.
‏‏(4)‏بقيت عندي رسالتان‏,‏ إحداهما جاءتنا من طهران‏,‏ والثانية بعثت بها عواصم العرب‏.‏ الأولي عبرت عنها تصريحات المسئولين في العاصمة الايرانية‏,‏ الذين رحبوا بشنق صدام حسين‏.‏ واعتبروه نصرا للعراقيين‏(‏ حميد رضا آصفي نائب وزير الخارجية‏)‏ ـ وهنأوا شعب العراق لأن الرجل ذهب إلي الجحيم‏(‏ علاء الدين يروجردي رئيس لجنة الأمن في مجلس الشوري‏)..‏ وهو ما سوغ لوكالات الأنباء أن تصنف الجمهورية الاسلامية مع اسرائيل والولايات المتحدة‏,‏ في موقفها من الحفاوة بعملية الاعدام‏.‏لقد شعرت بمرارة في حلقي حين وقعت علي ذلك التصنيف‏.‏ لكن المرارة اقترنت بحزن لم أستطع اخفاءه لأن طهران انضمت إلي الشامتين‏,‏ ولم يستوقفها انتهاك حرمة العيد ولا ما اصاب مشاعر ملايين المسلمين من أذي ومهانة جراء تنفيذ الاعدام صبيحة يومه الأول‏,‏ ورأيت في تلك التصريحات ايران أخري غير التي عرفتها أو تمنيتها‏.‏ غلبت فيها فرحة الانتقام للطائفة علي الغضب لما اصاب كرامة عامة المسلمين من انتهاك وازدراء وهو ما جعلني اتساءل قائلا‏:‏ لو أنها كانت ايران الشاهنشاهية‏,‏ هل كان الأمر يختلف عما عبرت به ايران الاسلامية؟أما رسالة عواصم العرب فقد عبرت عنها الاصداء القوية لحدث الاعدام في مشرق العالم العربي ومغربه‏,‏ والتي اختلط فيها الغضب لما اصاب الذات من جرح بمشاعر الاعجاب والافتتان بالصورة التي ظهر بها الرئيس السابق في مشهد الاعدام‏.‏ حتي الذين آذاهم صدام حسين واجرم بحقهم نسوا ما اصابهم وأكبروا موقفه‏,‏ الأمر الذي يشي بحقيقة يتعين الانتباه اليها‏,‏ وهي أن العالم العربي ضاق ذرعا بالانكسار والاستخذاء‏.‏ ومنذ سنوات وهو يبحث جاهدا عن رمز يجسد له الصمود والكبرياء والعزة‏.‏ ذلك أنه مع كل صفعة نتلقاها‏,‏ أو مهانة تحل بنا‏,‏ فان الناس ما برحوا يهرعون إلي الواجهات باحثين عن قشة كبرياء يتعلقون بها أو رمز للعزة يصطفون وراءه‏,‏ إلا أنهم في كل مرة يردون إلي أعقابهم محبطين‏.‏ ولولا بعض ومضات الأمل في محيطهم لاستسلموا لليأس والكمد‏.‏ بسبب من ذلك‏,‏ فما أن رأوا صدام حسين منتصب الهامة ومرفوع الرأس ومتحديا لكل ما أحاط به من قهر وذل‏,‏ حتي غفروا له جرائمه وغسلوا يديه من دمائهم ورفعوه فوق رؤوسهم عاليا‏,‏ شاكرين له أنه استدعي إلي وعيهم في ومضة نادرة ما يفتقدونه في واقعهم الذي يخيم عليه العجز والمهانة‏.