بقلم: فهمـي هـويـــدي
لا أفقنا من الصدمة, ولا فارقنا الشعور بالمهانة والخزي. ولا نجحت الأيام العشرة التي مرت في إزالة آثار البصقة التي ألقيت في وجوهنا صبيحة يوم العيد. لكن ذلك ينبغي ألا يمنعنا من فض حزمة الرسائل التي تلقيناها من العواصم المعنية منذ وقعت الواقعة.
لا أفقنا من الصدمة, ولا فارقنا الشعور بالمهانة والخزي. ولا نجحت الأيام العشرة التي مرت في إزالة آثار البصقة التي ألقيت في وجوهنا صبيحة يوم العيد. لكن ذلك ينبغي ألا يمنعنا من فض حزمة الرسائل التي تلقيناها من العواصم المعنية منذ وقعت الواقعة.
(1)ثمة حقيقة يتعين الاعتراف بها قبل فض تلك الرسائل, وهي أن الذين أهانوا الرئيس السابق صدام حسين وارادوا إذلاله والانتقام منه, قدموا له من حيث لايحتسبون خدمة جليلة لم يحلم بها وهو في محبسه, إذ حولوه من رمز للجبروت والطغيان إلي رمز للكبرياء والشجاعة, حيث رآه الناس في مشهد إعدامه صامدا وثابت الجنان, بينما ظهر جلادوه أقزاما تخفوا وراء الأقنعة وجرذانا مذعورة تحاول أن تتخفي من أعين التاريخ.إن الذين تخيروا ساعة النحر يوم عيد الأضحي موعدا لشنقه, وحرصوا علي تصوير ماجري لحظة بلحظة, كأنما أعمي الله بصيرتهم فأوقعهم في شر أعمالهم. إذا بدا واضحا أن الغباء وشهوة الانتقام والحقد, هذه العوامل حين اجتمعت فيهم, فإنها غيبت عنهم إدراك جلال مناسبة العيد التي تمس شغاف قلوب مئات الملايين من المسلمين, وعن المعاني السامية والنبيلة التي يستحضرها المسلمون في تلك اللحظات. كما أعمتهم عن تمثل أبسط القيم التي تقرر للناس حق الكرامة في لحظات الموت, ناهيك عن أنهم تخلوا في تلك اللحظات عن مقتضيات المروءة والشهامة التي يجلها العرب والشرفاء في كل مكان.حين عموا عن ذلك كله وصموا, فإنهم لم يهينوا صدام حسين وحده, وإنما اهانوا عيد المسلمين, وملايين المسلمين, ومشاعر العرب أجمعين. ولأن غباءهم بدا مفرطا وبلا حدود, فإنهم حولوا مراسم الإعدام إلي طقس شيعي, فصوبوا سهما مسموما إلي العلاقة التي أصابها الوهن في العراق بين الشيعة والسنة. الأمر الذي حول مشهد الإعدام الي قنبلة ملوثة شديدة الانفجار, انتشرت شظاياها في أنحاء العالم العربي والاسلامي.بشاعة تصرفهم جعلت كثيرين ينسون سجل صدام حسين وفظائعه, ويتذكرون فقط لحظات الثبات التي وقفها وهو مقبل علي حبل المشنقة. ناهيك عن أن منهم من أصبح يترحم علي ايامه حين يقارنها بالخراب الذي عم البلاد وأهلك العباد بعد التحرير. كما أن التشفي فيه ومحاولة اهانته دفعا الأغلبية الساحقة الي الانحياز للضحية, ومن ثم الإعجاب بشجاعته والتعاطف معه. وهناك آخرون انضموا الي صفوف الغاضبين والناقمين, ليس احتجاجا علي ما أصاب الرجل, وإنما غضبا لحرمة عيدهم الذي تم ابتذاله وانتهكت كرامته, ولحرمة انتمائهم العقيدي الذي تعرض للتجريح والإهانة, وغيرة علي قيم المروءة والنخوة التي أهدرت في المشهد.
(2)في العدد الأخير من مجلة نيوزويك وصف رئيس تحريرها فريد زكريا مشهد الإعدام بأنه انتقام المنتصرين ووصف آداء فريق الرئيس بوش في العراق بأنه كان مزيجا غريبا من الجهل والسذاجة. لكني لا أري في هذه الأوصاف تشخيصا دقيقا ولاتفسيرا كافيا لاختيار اعدام الرئيس العراقي السابق بهذه الطريقة في ذلك التوقيت الحساس. أعني في ساعة النحر صبيحة اليوم الأول من عيد الأضحي. علما بأنه تم تجاوز اللغط حول صلة الأمريكيين بتحديد موعد الاعدام, بعدما ثبت أنهم العنصر الأساسي في حسم جميع تفاصيل العملية. وأن كل مافعلته الحكومة العراقية أنها قامت بالتنفيذ واعتبرته فرصة للانتقام والتشفي.صحيح أن الانتقام وارد وأن الجهل والسذاجة باتا من السمات الأصيلة لقرارات الإدارة الأمريكية في العراق, لكن إجراء الإعدام وتوقيته صبيحة يوم العيد سلط الضوء علي ماهو أبعد وأعمق من مضمون تلك المصطلحات. الأمر الذي يضعنا بازاء حالة تجلي فيها الأزدراء والاحتقار في اسطع صوره. ذلك أن إلقاء تلك البصقة الجارحة في وجوه مليار و300 مليون مسلم دفعة واحدة في يوم عيدهم لايمكن الاكتفاء في تفسيره بحسبانه نابعا من مجرد الجهل والسذاجة. فخطوة بهذه الجسامة لايمكن لراشد أن يغفل عن تداعياتها في الظروف العادية. ولايمكن لصاحب القرار أن يقدم عليها في مناسبة عيد ديني هو الأكبر عند المسلمين, إلا إذا كان قد تعامل مع الطرف الآخر فيها( العرب والمسلمون) بحسبانهم كائنات لا قيمة لها ولا كرامة. وليس لديهم مايستحق الاعتبار, لا العقيدة ولا التقاليد أو الأعراف, وأن ثقافتهم مما يمكن دوسه واستباحته دون قلق من ردود الفعل.لو أن الرئيس بوش وفريقه خطر ببالهم للحظة أنهم يتعاملون مع أمة فيها نبض حياة وتخيلوا أن ثقافتها تستحق الاحترام, وأن شعوبها لها شيء من الكرامة وتعرف معني الغضب لترددوا ألف مرة قبل أن يقدموا علي فعلتهم, ولما أوي الرئيس بوش إلي فراشه متهللا في تلك الليلة, حاظرا علي الجميع ايقاظه تحت أي ظرف..( كما نشرت الصحف) ـ ولم لايستريح ضميره ويهنأ باله, وهو يعلم أن غاية ما سوف يحدث في الصباح التالي أن تسقط جثة فرد فوق سطح جثة أمة لم يرها إلا فاقدة الحراك ومعدومة الاعتبار؟!.تلك هي الرسالة الأهم التي يتعين استلامها مما جري. ومن يريد منها استزادة أو توثيقا لخلفيات موقف الازدراء الأمريكي التقليدي بالآخر, فعليه أن يقرأ كتاب الباحث منير العكش: حق التضحية بالآخر ـ أمريكا والإبادات الجماعية. وهو من سجل بتفصيل مثير قصة الوحشية الأمريكية في ابادة الهنود الحمر, ـ أول آخر صادفهم ـ الذين كان الأمريكيون يمعنون في إذلالهم وتحقيرهم ويصفونهم بأنهم عرب!
(3)اذا كان الاحتقار هو مفتاح قراءة الموقف الأمريكي, فإن الانتقام هو مفتاح موقف السلطة العراقية. ولا يخلو من مبالغة وصفها بأنها سلطة, لأنها لا تملك من الأمر شيئا في حين أن السلطة الفعلية هي للأمريكيين علي مستوي, وللإيرانيين علي مستوي آخر, وكل الذين يتحركون علي مسرح السلطة خيوطهم مشدودة إلي هذا الطرف أو ذاك. كما أن كل الذي يشاع عن اقامة الاحتلال لدولة ديمقراطية يسودها القانون ومجتمع مدني تتعدد فيه المؤسسات, هو هراء ومحض أكاذيب. فنحن بازاء أنقاض واشلاء دولة تمكنت منها جماعات لها دوافعها الطائفية, التي تريد اعادة صياغة العراق وكتابة تاريخه من هذه الزاوية. وهم في ذلك لم يختلفوا كثيرا عن صدام حسين في تبنيهم للعنف, بل ربما كانوا أسوأ منه. أقله لأن الرجل كان جلادا لحساب الوطن, بينما هم جلادون لحساب بالطائفة. وهذه هي الرسالة الثانية التي تلقيناها في ثنايا مشهد الاعدام المهين. دعك من اهدار القانون في تشكيل المحكمة بواسطة حكومة الاحتلال, وفي اجراءات التحقيق والمرافعة, وفي تنفيذ الاعدام في يوم العيد الكبير( الممنوع بحسب القانون وطبقا للاعراف السائدة في العالم المتحضر), وفي شنق الرجل فيحين أنه كان ينبغي أن يعدم رميا بالرصاص باعتباره أسير حرب, إلي غير ذلك من الممارسات التي ندد بها المنصفون والراشدون, وفضحت أكذوبة دولة القانون. إذا غضضت الطرف عن ذلك كله وسألت: لماذا اعدم الرجل بتهمة قتل138 مواطنا عراقيا( هم حصيلة يوم واحد في المقتلة الدائرة حاليا), ولم يحاسب علي قتل خمسة آلاف كردي عراقي بالغاز السام في حلبجة, ولا علي غزوه للكويت, أو حربه ضد ايران, أو الجرائم الأخري التي ارتكبت بحق معارضيه السياسيين ؟ستلوح فكرة الانتقام في الأفق حين تتحري الاجابة. اذ ستلاحظ أن الذين حاولوا اغتيال الرئيس السابق قبل ربع قرن, اثناء حربه ضد إيران, هم من شيعة قرية الدجيل, الذين بطش بهم الرجل اثر فشل المحاولة. ولأن الجماعات الشيعية هي صاحبة السهم المعلي في الوضع الراهن, فإن إشباع رغبتها في الانتقام اقتضي ان يعدم صدام حسين بسبب ما اقترفه بحقهم.واذا كان الأبالسة الذين اخرجوا المشهد قد وفروا للمتعصبين فرصتهم في التشفي, إلا أنهم حققوا من وراء الاعدام غرضا آخر كسبوا به نقطة أراحت خواطرهم. فإلي جانب مجاملتهم للشبعة, فإنهم تخلصوا من الرجل وأسكتوه إلي الأبد. حتي لا يفضي بما لديه من اسرار ويكشف مخزون فضائح الممارسات السياسية التي تمت في عهده, والتي كانت الدول الغربية وبعض العربية ضالعة فيها. ذلك أن الغاز السام الذي قتل به الاكراد في حملة الانفال لم يكن منتجا عراقيا ولكنه قدم اليه من الدول الغربية الصديقة. وحربه ضد ايران كانت مؤيدة بالدعم الامريكي والعربي, حتي غزوه للكويت لم يسلم من اللغط الذي جري الزج في ثناياه بدور للدبلوماسية الأمريكية. وخلال سنوات حكمه التي استمرت ربع قرن فانه لم يكن يتصرف لوحده دائما. وانما تداخلت مع وتقاطعت اطراف أخري خارجية بصورة أو أخري. وذلك كله يمكن أن يفجر ويفضح اذا ما حوكم الرجل عن تلك الجرائم. ولأن اسكاته غدا مطلبا ملحا لإغلاق الملفات الأخري, فإن الاعدام كان هو الحل.
(4)بقيت عندي رسالتان, إحداهما جاءتنا من طهران, والثانية بعثت بها عواصم العرب. الأولي عبرت عنها تصريحات المسئولين في العاصمة الايرانية, الذين رحبوا بشنق صدام حسين. واعتبروه نصرا للعراقيين( حميد رضا آصفي نائب وزير الخارجية) ـ وهنأوا شعب العراق لأن الرجل ذهب إلي الجحيم( علاء الدين يروجردي رئيس لجنة الأمن في مجلس الشوري).. وهو ما سوغ لوكالات الأنباء أن تصنف الجمهورية الاسلامية مع اسرائيل والولايات المتحدة, في موقفها من الحفاوة بعملية الاعدام.لقد شعرت بمرارة في حلقي حين وقعت علي ذلك التصنيف. لكن المرارة اقترنت بحزن لم أستطع اخفاءه لأن طهران انضمت إلي الشامتين, ولم يستوقفها انتهاك حرمة العيد ولا ما اصاب مشاعر ملايين المسلمين من أذي ومهانة جراء تنفيذ الاعدام صبيحة يومه الأول, ورأيت في تلك التصريحات ايران أخري غير التي عرفتها أو تمنيتها. غلبت فيها فرحة الانتقام للطائفة علي الغضب لما اصاب كرامة عامة المسلمين من انتهاك وازدراء وهو ما جعلني اتساءل قائلا: لو أنها كانت ايران الشاهنشاهية, هل كان الأمر يختلف عما عبرت به ايران الاسلامية؟أما رسالة عواصم العرب فقد عبرت عنها الاصداء القوية لحدث الاعدام في مشرق العالم العربي ومغربه, والتي اختلط فيها الغضب لما اصاب الذات من جرح بمشاعر الاعجاب والافتتان بالصورة التي ظهر بها الرئيس السابق في مشهد الاعدام. حتي الذين آذاهم صدام حسين واجرم بحقهم نسوا ما اصابهم وأكبروا موقفه, الأمر الذي يشي بحقيقة يتعين الانتباه اليها, وهي أن العالم العربي ضاق ذرعا بالانكسار والاستخذاء. ومنذ سنوات وهو يبحث جاهدا عن رمز يجسد له الصمود والكبرياء والعزة. ذلك أنه مع كل صفعة نتلقاها, أو مهانة تحل بنا, فان الناس ما برحوا يهرعون إلي الواجهات باحثين عن قشة كبرياء يتعلقون بها أو رمز للعزة يصطفون وراءه, إلا أنهم في كل مرة يردون إلي أعقابهم محبطين. ولولا بعض ومضات الأمل في محيطهم لاستسلموا لليأس والكمد. بسبب من ذلك, فما أن رأوا صدام حسين منتصب الهامة ومرفوع الرأس ومتحديا لكل ما أحاط به من قهر وذل, حتي غفروا له جرائمه وغسلوا يديه من دمائهم ورفعوه فوق رؤوسهم عاليا, شاكرين له أنه استدعي إلي وعيهم في ومضة نادرة ما يفتقدونه في واقعهم الذي يخيم عليه العجز والمهانة.